قصة علياء
اسمي علياء لكنني في الحقيقة متواضعة في كل شيء، فكما يقول الناس لا مال ولا جمال ولا حسب أو نسب، أبي رجل بسيط يعمل سائقًا على إحدى عربات الأجرة التي لم يكن يملكها، لكنه كان يقتسم العائد المادي مع صاحب العربة في نهاية كل يوم، أبي رجل طيب وأمي كذلك، امرأة ريفية مكافحة وشريفة تقف مع زوجها جنبًا إلى جنب، تجمع اللبن والبيض من نساء القرية كل مساء، وفي الصباح الباكر تذهب إلى المدينة كي تبيعه لأهل المدن، منهم من يمنحها جنيها زائدًا عن حقها، ومنهم قليل الذوق شحيح الكرم الذي يقطع أنفاسها في محاولة تقليل الثمن جنيه أو جنيهين غير مُقدر لما تعانيه هذه المسكينة من شظف العيش وتدني المستوى.
كنت أحمل معها حاجيتها كل صباح لأوصلها إلى مكانها المعتاد بالسوق، من ثم أتجه إلى جامعتي بثيابي البسيطة، وهيئتي العادية جدًّا، على كلٍ كنت مطمئنة بخصوص مسألة زواجي فـ "عادل" جارنا يحبني ولطالما حاډث أمي بأنه ينوي أن يتقدم لخطبتي بمجرد أن يجمع مبلغًا معقولًا من المال يُمَكِنَّه من الزواج بي.
يومًا ما ومن دون سابق إنذار تعرض أبي لحاډث فظيع كانت ضحيته روحه الطاهرة، ومن دون مقدمات تركنا أبي دون وداع أو استعداد للحياة من دونه، لم تحتمل أمي الصدمة وأصيبت بالشلل التام، وفجأة وجدت نفسي أمام المدفع وأصبحت العائل الوحيد لأسرتي، لأمي المړيضة ولأخي الصغير ولنفسي.
قررت أن أترك الجامعة على الأقل هذا العام، لكن حلمًا بعيدًا بالتخرج كان دائمًا يراود أبي جعلني أتراجع عن قراري رغبة في تحقيق أمنيته بأقرب وقت، وبعد تفكير طويل، قررتُ إكمال الرحلة والبدء من حيث انتهت أمي، من الغد سأجمع أنا البيض والجبن واللبن وسأذهب به إلى السوق وسأحاول جاهدة بيعه ثم الذهاب سريعًا للجامعة لإكمال ما يمكن إكماله!
بعد يومين كنت أفترش أرض السوق وأمامي حقائب بها بعض زجاجات اللبن وقطع الجبن والقليل من البيض، وبحجري كتاب عنوانه "الإحصاء التطبيقي" يشرد بصري بين سطوره، أقرأ الكلمات ولا أعي منها شيئًا!
وبعد دقائق كان عادل بقامته الطويلة يقف متلعثمًا أمامي، وجهه محمر وأعصابه مشدودة أدركت أنه يريد أن يقول شيئًا ما، وأخيرًا استجمع شجاعته قائلًا:
قلت له في صدمة وبصوت مبحوح:
-وما الذي يعيب بائعة اللبن! إنها تكافح من أجل أخيها اليتيم ووالدتها المړيضة!
لم يرد، ولاني ظهره وانصرف، بكيتُ في هذا اليوم كما لم أبكِ من قبل، لعنت الظروف والفقر والمړض، في الحقيقة كنت أتحمل رحيل أبي أما رحيل "عادل" كنت أضعف من أن أتحمله!
بعد هذه الحاډثة بأسبوع، تم طردي من المحاضرة، المعيد الغبي لم يحتمل فكرة أنني لم أقتنِ الكتاب حتى الآن ونعتني بـالمستهترة، لم أنجح في إخباره أن الفقر هو السبب خرجت من المحاضرة باكية وقررت أن أترك الجامعة بلا عودة!